بنفسج

السنوار روائيًا: الثوابت الفلسطينية حاضرة في "الشوك والقرنفل" [2]

الأربعاء 06 ديسمبر

نكمل في هذا الجزء الثاني من مراجعتنا لرواية الشوك والقرنفل، باعتبارها قراءة أولية لعمل روائي أنتجه قائد حركة حماس في غزّة، يحيى السنوار أبو إبراهيم، الذي انتهى من كتابتها في سجن بئر السبع في عام 2004. تطرقنا في الجزء الأول من هذه المراجعة، إلى عرض موجز وسريع للفكرة الرئيسة والشخصيات العامة للرواية، ومن ثم تعرضنا إلى أبرز الثوابت الفلسطينية التي توجزها الرواية، فتعرضت إلى موضوع اللجوء والعودة، القدس والأقصى والمقدسات، قضايا المقاومة والتحرير، وهُنا نكمل الحديث عن أبرز القضايا الأخرى التي تناولتها الرواية

العملاء… والموقف ثابت

عملاء 1.png
تكررت مشاهد العملاء والجواسيس، وقد كان الموقف ثابت بشأنهم: القتل والإعدام، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر

منذ الصفحات الأولى، وعندما كان الراوي صغيرًا، ذكر لنا مشهدًا لم يألفه أو حتى يفهمه لصغر سنه، تمثل بقيام مجموعة من المقاومين وعلى رأسهم (أبو حاتم - من أحد المقاومين) بإعدام أحد الجواسيس الذي قام ب(الوز) أي الوشي على مجموعة من المقاومين الذين نفذوا كمين، ولم يستطيعوا إكمال المهمة؛ ما أدى إلى استشهادهم على الفور.

كما جاء في الفصول الأخيرة تأكيد انخراط وتعامل ابن عمه حسن مع مخابرات الاحتلال، وقد ثبتت عليه العمالة مع إسرائيل؛ ما جعل إبراهيم يفكر بكيفية القضاء عليه وإنهاء حياته، وتكررت مشاهد العملاء والجواسيس طيلة فصول الرواية، وقد كان الموقف ثابت بشأنهم: القتل والإعدام، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر. يبيّن موقف الكاتب من قضيّة العملاء، ولو رجعنا لسيرته الحقيقية لوجدنا أنّه رأى من المهم بمكان القضاء على العملاء باعتبارهم أحد أهم أدوات كسر الاحتلال وخلخلته، وهم خنجر مسموم يضرب نسيج المجتمع الفلسطيني. لذلك عمل على تأسيس جهاز الأمن والدعوة "مجد"، الذي تولَّى الملفات الأمنية الداخلية، وتمكَّن كذلك من قيادة مجموعة من الكوادر الأمنية وتتبُّع عدد من العملاء الذين عملوا لصالح الاحتلال.

تجربة السجن، والتحقيق القاسي والزنزانة

الأسرى.jpg
قضية الأسرى الفلسطينين كانت حاضرة وبشدة في الرواية، تطرق إلى كل تفاصيلها، التحقيق،الغرف، الفورة وغيرها

تكثّفت تجربة السجن في الرواية، فكيف لا والكاتب قد عاش ما يزيد عن 23 سنة في سجون الاحتلال، بعد أن حُكم أربعة مؤبدات و 30 عامًا إضافيّة، وخرج في صفقة وفاء الأحرار عام 2011. ففي أغلب فصول الرواية، نجده قد تطرق ولو بشكل بسيط عن حياة السجن والاعتقال والتحقيق. من خلال قراءة الرواية تبين معنا أن جميع أفراد العائلة اعتقلوا بأوقات وظروف متفاوتة، وفي كل مرة يذكر تفاصيل التعذيب والإذلال سواءً للسجين أو لأهله وذويه.

"أدخلوني إلى إحدى الغرف، وحين رفعوا الكيس عن رأسي وجدت أمامي حوالي سبعة من المحققين… أحدهم دفعني في صدري.. خرز حديد القيد دخل في ظهري ... واحد على صدري يخنقني ... والآخر وقف على بطني وبدأ يدوس بقدميه…".

 بدأ الأمر مع أخيه محمود الذي تعرض للضرب أثناء التحقيق معه في (مسلخ) سجن غزة، وفي فترة اعتقاله خاض السجناء إضرابًا عن الطعام، حتى نحل عوده وهزل قوامه ولم يعد يعرف أنه هو. إلّا أنّهم نجحوا في تحقيق العديد من المطالب، منها: السماح لهم بالمشي في الفورة، والسماح بالزيارة بشكل أطول، وغيرها من المطالب.

ومن أبرز المواقف التي وردت في الرواية عند اعتقال الراوي مع ابن عمه إبراهيم يقول: "أدخلوني إلى إحدى الغرف، وحين رفعوا الكيس عن رأسي وجدت أمامي حوالي سبعة من المحققين… أحدهم دفعني في صدري.. خرز حديد القيد دخل في ظهري ... واحد على صدري يخنقني ... والآخر وقف على بطني وبدأ يدوس بقدميه…".

ولم ينس ذكر غرف العصافير، وأساليبهم في استغفال السجين ومحاولة الإيقاع فيه، حتى يشعر بالاطمئنان ويعترف لديهم، مثلما حصل مع الراوي أثناء اعتقاله، فقد دخل أولًا إلى التحقيق ولم يعترف بشيء ثم وضعوه في غرفة العصافير وعرف ذلك فلم ينبس ببنت شفة، وبعد ذلك أدخلوه إلى القسم - كما كان يظن- إلّا أنه وبعد خروجه أخبره إبراهيم بأنّه لم يدخل القسم كما ظنّ؛ إنما كانت محاولة ثانيّةً من عملية الاستغفال، فبعض الشبان لديهم الوعي حول غرف العصافير، ولكن لمرةٍ واحدة. فاستغلت إدارة السجن ذلك الأمر، وعملت على إكمال مسرحيتها للسجين، حتى تنطلي عليهم الخدعة ويقعون فريسةً للمحققين وإدارة السجن. 

بروز التيار الإسلامي وتناميه في الأراضي الفلسطينية

التيار الإسلامي.jpg
في الفصل الثاني عشر يشير الراوي إلى بدايات التيار الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزة

يظهر الراوي فترة مهمة في حياة الفلسطينيين وهي بدء انتشار الوعي الإسلامي تجاه أمور حياتهم، فزاد الاهتمام بالصلاة ولبس الحجاب للنساء، وغيرها من الممارسات الدينية. أشار إلى أنّ الشيخ أحمد، الذي كان يربط بين العمل الوطني والالتزام بالشريعة الإسلامية، وهذه النقلة النوعية التي بدأت بالفعل تحدث، فلم تعد المحاضرات والجلسات في المسجد دينية فقط، بل بدأ المزج بينهما، يذكر كيف أن الشيخ أحمد شجّع حسن (أخ الراوي) الالتزام بالصلاة في المسجد، وبالفعل بدأ يتردد للمسجد، ويقضي الوقت من صلاة المغرب وحتى العشاء يتدارسون في تفسير بعض الآيات، وحفظ الأحاديث النبوية (ص 105).

في الفصل الثاني عشر يشير الراوي إلى بدايات التيار الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إذ ظهرت أولًا في الخليل وبالتحديد من مدرسة طارق بن زياد؛ فبرز عدد من المدرسين فيها، والذين تخرجوا من الجامعة الأردنية وعادوا إلى الخليل وبدأوا في نشر الفكر الإسلامي في المدينة ووجدوا في صفوف طلاب المدرسة الثانوية تربة خصبة لذلك. جاء في الرواية: "...لم يكن اسم الإخوان المسلمين في الخليل أشبه بالشتيمة كما كان في قطاع غزة أو في شمال الضفة الغربية. لقد كان للإخوان تاريخ قديم وكانت فكرة الإخوان متبناة لدى عائلات معروفة بغناها وشرفها في المدينة، لذا فقد كان من السهل ظهور الاسم وإعلانه دون حرج".

"...لم يكن اسم الإخوان المسلمين في الخليل أشبه بالشتيمة كما كان في قطاع غزة أو في شمال الضفة الغربية. لقد كان للإخوان تاريخ قديم وكانت فكرة الإخوان متبناة لدى عائلات معروفة بغناها وشرفها في المدينة، لذا فقد كان من السهل ظهور الاسم وإعلانه دون حرج".

في بقية فصول الرواية يبين الراوي بروز هذا التيار وانتقاله إلى غزة ودخوله إلى بيته الذي لم يكن يعرف إلا فصائل مثل فتح والجبهة الشعبية، وسينعكس ظهوره على أفراد العائلة وانقسامها على نفسها، فمحمود الذي ينتمي إلى حركة فتح يستاء من تدين حسن ومحمد أخويه وإبراهيم ابن عمه، وكثيرًا ما كان يجلس معهم كل على انفراد ليقنعهم بالامتناع عن الذهاب إلى المسجد؛ لأن من يعطي الدروس فيه "إخونجية"، وهؤلاء ضد عبد الناصر وضد الوحدة العربية ولا يعترفون بمنظمة التحرير الفلسطينية.

يوضح الراوي كيف أن أصبح الوعي السياسي منتشرًا في الأراضي الفلسطينية، وخلال عدة سنوات برز التيار الإسلامي بقوة، وأصبح ينافس على العديد من المواقع مقابل ممثلي فصائل منظمة التحرير. وهو يفوز في العديد منها أو يحصل على نسب جيدة في مواقع أخرى، وكان هذا الأمر مقلقًا.. فهذا التجمع الإسلامي لا يعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وكذلك فهو لم يحمل على عاتقه بعد مسؤولية الكفاح المسلح. تنامي هذا التيار بصورة كبيرة في غزة، وتحديدًا في الجامعة الإسلامية التي كان الراوي وإبراهيم ملتحقان بها، ولهما دورهما الكبير في الكتلة الإسلامية.

الانتفاضة الأولى

الانتفاضة الاولى.webp
تطرقت الرواية إلى الأحدث الأبرز في تاريخ القضية وهو الانتفاضة الأولى أو انتفاضة الحجارة 1987

لم يكن غريبًا على راوي الرواية ذكر الحدث المؤسس في ذاكرة وتاريخ الشعب الفلسطيني، الانتفاضة الأولى، أو انتفاضة الحجارة، مآلاتها وكيفية نشوئها وكيف وحّدت العمل المسلح في كافة أرجاء فلسطين.

ففي مساء الثلاثاء الثامن من ديسمبر عام 1987، بينما كانت حافلة تقل عددًا من العمال الفلسطينيين العائدين من عملهم داخل الأراضي المحتلة عام 1948، متجهةً نحو الجنوب إلى مدينة غزة وقد تجاوزت حاجز إيرز، وعلى الاتجاة الآخر من الطريق كانت قاطرة ضخمة يقودها أحد الصهاينة فتعمّدت قتل عددٍ من العمال وأصابت آخرين.

يسرد كيف أن أحد الشبان انسل إلى بيت الشيخ أحمد ليخبره بالأمر، سائلًا عن المقترح لفعله، ببساطة وجهه الشيخ لتفجير الوضع مع خروج الجنازات إلى مظاهرات عارمة وصدامات عنيفة مع قوات الاحتلال، بدأت الأمور بالغليان، فقد قرر الحاكم العسكري بغزة بإغلاق الجامعة الإسلامية لـ 3 أيام.

في مساء الثلاثاء الثامن من ديسمبر عام 1987، بينما كانت حافلة تقل عددًا من العمال الفلسطينيين العائدين من عملهم داخل الأراضي المحتلة عام 1948، متجهةً نحو الجنوب إلى مدينة غزة وقد تجاوزت حاجز إيرز، وعلى الاتجاة الآخر من الطريق كانت قاطرة ضخمة يقودها أحد الصهاينة فتعمّدت قتل عددٍ من العمال وأصابت آخرين.

تصاعدت وتيرة الأحداث في اليوم الأول للانتفاضة، فمن أقصى شمال غزة حتى جنوبها خرجت الآلاف في كل المناطق في تظاهرات عنيفة اشتبكت مع قوات الاحتلال. وصف الراوي ما يحدث: "الأولاد يذهبون إلى مدارسهم، يتعلمون في الفترة الصباحية، وفي الفترة المسائية تشتعل الشوارع وصدامات ومواجهات وتظاهرات، التجار يبيعون ويشترون ويمارسون عملهم في الفترة الصباحية وبعد الظهر يعم الإضراب العام".

أوسلو والحل السلمي..

اتفاق أوسلو.jpg
اتفاق أوسلو: هو اتفاق سلام وقعته إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في مدينة واشنطن الأمريكية في 13 سبتمبر 1993

تلقي العملية السلمية بظلالها على بيت أم محمود، فتدور الحوارات والمشاحنات بين محمود الذي تبنّى الحل السلمي، وبين إخوته الذين تبنوا حل المقاومة في دحر الاحتلال واستعادة البلاد، تمخض عن عملية السلام الاعتراف بدولة إسرائيل، واعتراف من إسرائيل على حدود السابع من حزيران. وتشكيل إدارة فلسطينية وغيرها من البنود، جنّ جنون إبراهيم لهذا التوقيع، ما دفع بالمعارضة للخروج إلى الشارع ورفض هذه الاتفاقيّة جملة وتفصيلًا، ولعل الحدث البارز في تلك الفترة اعتقال ابن خالتهم فتحية (عبد الرحيم) بعد عملية استشهادية قام بها رفيقه، سجن على إثرها مدة 8 أشهر، وبعدها سلمت سلطات الاحتلال عبد الرحيم ورفاقه إلى السلطة الفلسطينية، التي بدورها نقلتهم إلى سجن أريحا؛ وفور وصول الأخبار اشتد الصدام بين محمود وإخوته وصل حد الاتهام بالتواطؤ والتعامل مع إسرائيل.

الخاتمة: استشهد البطل

استشهد المقاوم.jpg
أخذتنا الرواية إلى أهم المراحل التاريخية حتى وصلنا إلى الهدف المحدد منذ البداية..استشهد البطل 


في السطور الأخيرة من الفصل الثلاثين وهو الأخير، يخبرنا الراوي خبر قصف طائرات الأباتشي سيارة إبراهيم، كان الانفجار عاليًا، جمعت أشلاء الشهيد وبدأ طوفان من البشر نحو باب الدار، وخرجت جنازة كبيرة تليق بالبطل، يصف الراوي المشهد الأخير: "خرج الآلاف من الملثمين من كتائب الشهيد عز الدين القسام بلباسهم المعروف يصطفون في صفوف لا نهاية لها، ويرفعون الرايات الخضراء، ومن كتائب شهداء الأقصى بلباسهم المعروف يصطفون في صفوف لا نهاية لها ويرفعون الرايات الفراء ومن كتائب سرايا القدس يرفعون الرايات السوداء، وغيرهم يحملون أسلحتهم ويلوحون بها في الهواء…".

استطاع الكاتب بقدرته على على المزاوجة بين الأحداث التاريخية والشخصيات الخيالية صنع نسيجٍ متماسكٍ ومتين، فلا يشعر القارئ بالملل، نتيجة تسارع الأحداث وتسلسلها، وصحيح بأنّها أحداثٌ جميعنا يعرفها، إلّا أنّ وقعها على الشخصيات حرّك لدينا الحرص على قراءة كل كلمة، ولعل تعلقنا بالبطل إبراهيم، جعلنا نقرأ كل كلمة بعناية لمعرفة ما هو مصيره؟ أهي الشهادة كما تمنّى؟

"خرج الآلاف من الملثمين من كتائب الشهيد عز الدين القسام بلباسهم المعروف يصطفون في صفوف لا نهاية لها، ويرفعون الرايات الخضراء، ومن كتائب شهداء الأقصى بلباسهم المعروف يصطفون في صفوف لا نهاية لها ويرفعون الرايات الفراء ومن كتائب سرايا القدس يرفعون الرايات السوداء، وغيرهم يحملون أسلحتهم ويلوحون بها في الهواء…".

التزم الكاتب بتسلسل الأحداث وتتابعها، والربط بين الفترات والحقب المختلفة، كما استطاع أن يربط بين عدة أماكن أساسية وأخرى ثانويّة، وجعلنا ننتقل بالمكان والزمان إلى ما أراد.

استطاع الكاتب بلغته العذبة السليمة السهلة أخذنا نحو الأحداث وتتابعها وتأزمها، وربما كان من الأفضل التقليل من سرد التفاصيل التاريخية البديهية، لأنها لم تخدم الرواية بشكل كبير؛ إنمّا زادت من الحشو الذي قد يجعل الرواية طويلة، ويصيب القارئ بالملل.

بصفحاتها البالغ عددها 335، أخذتنا رواية الشوك والقرنفل إلى رحلة طويلة نرصد فيها أهم مراحل القضية الفلسطينية رافقنا فيها بطلٌ، عشنا معه لحظاتٍ من الأمل والألم والنصر والحبّ والإخلاص والذكاء والتفاني في خدمة قضيته التي عمل لها ولأجلها، وقد حدد هدفه من البداية.. فاستشهد.